يؤدّي وجود الأب الداعم منذ اللحظات الأولى للحمل دورًا حاسمًا في استقرار الأسرة. لا يقتصر دوره على الإنفاق أو اتخاذ القرارات، بل يتعدى ذلك ليؤثر نفسيًا وعاطفيًا في الأم والطفل. هذا التأثير، وإن بدا خفيًا أحيانًا، إلا أن نتائجه تظهر بوضوح على المدى الطويل من حيث صحة العلاقة الزوجية، وتطور الطفل، وحتى الحال النفسية للأم.
في هذا المقال، نكشف التأثيرات العميقة لوجود الأب الداعم على الطرفين، من خلال عرض الجوانب النفسية والعاطفية والتربوية التي تتأثر بدوره، استنادًا إلى دراسات علمية موثوقة، مع التركيز على أهمية الدعم المتواصل في المراحل الحساسة من حياة الأسرة. سنتناول تأثيره على الأم أولًا، ثم على الطفل، ونتوقف بعدها عند أهم أشكال الدعم وكيفية ممارستها بفعالية.
دعم الأب يخفّف العبء النفسي على الأم
تؤدّي المرأة خلال الحمل وبعد الولادة أدوارًا متعدّدة، فتتحمّل مسؤولية الرعاية، والتغيّرات الهرمونية، والضغوط الاجتماعية. هنا، يصبح وجود الأب الداعم عاملًا أساسيًا في التخفيف من الشعور بالتوتر. تشير دراسات نُشرت في مجلة BMC Pregnancy and Childbirth إلى أن دعم الشريك يقلل من خطر الإصابة باكتئاب ما بعد الولادة بنسبة تصل إلى 50٪.
عندما يشعر الأب بمسؤولية المشاركة، ترتاح الأم نفسيًا وتتمكّن من التركيز على علاقتها بالرضيع. كما أن تشارك الأب في المهام اليومية كتحميم الطفل أو تحضير الوجبات يخلق توازنًا صحيًا داخل المنزل. هذا التوازن يمنح الأم وقتًا للراحة، مما يقلل من الإرهاق الذهني والجسدي.
علاوةً على ذلك، يدعم الحضور العاطفي للأب استقرار الأم الانفعالي. فبوجود شخص يصغي، ويساند، ويعبّر عن الاهتمام، تشعر المرأة بالأمان وتكتسب طاقة إيجابية تنعكس مباشرة على طريقة تعاملها مع الطفل.
وجود الأب الداعم يعزّز النمو العاطفي للطفل
من ناحية أخرى، لا يقلّ وجود الأب الداعم أهمية في حياة الطفل نفسه. يطوّر الأطفال الذين ينشأون في بيئة يشارك فيها الأب بفعالية، مهارات عاطفية واجتماعية أقوى. تُظهر الأبحاث في علم النفس التنموي أن الأطفال الذين يتلقّون دعمًا من آبائهم يطوّرون قدرة أكبر على التعبير عن مشاعرهم، والتفاعل بشكل إيجابي مع الآخرين.
ليس الدعم المادي وحده ما يهم، بل التفاعل اليومي، كاللعب، والحديث، والاحتضان، يساعد الطفل على بناء ثقة داخلية. الأطفال يحتاجون إلى الشعور بأنهم محبوبون ومقبولون من كلا الوالدين. إنّ وجود الأب الداعم يخلق نموذجًا للارتباط الآمن (secure attachment)، مما يقلّل من احتمال ظهور مشاكل سلوكية مستقبلًا.
بشكل خاص، يظهر تأثير الأب في الفترات الأولى من الطفولة، إذ يبدأ الطفل بالتمييز بين الأصوات والوجوه. عندما يشعر الطفل بأن صوت والده مألوف ومريح، ينمو لديه شعور داخلي بالاطمئنان.
تأثير وجود الأب في توازن العلاقة الزوجية
إضافة إلى ذلك، يسهم وجود الأب الداعم في الحفاظ على علاقة زوجية مستقرة. إنّ المشاركة في اتخاذ القرارات، واحترام الجهد الذي تبذله الأم، يخفف من التوترات اليومية. كثير من النزاعات بين الأزواج تبدأ نتيجة عدم توازن الأدوار بعد الولادة.
عندما يُظهر الأب تعاطفه واهتمامه بصحة الأم الجسدية والنفسية، ينمو بين الطرفين نوع من الانسجام العاطفي. ينعكس هذا الانسجام مباشرة على سلوك الطفل، الذي يشعر بالراحة في أجواء يسودها الاحترام والتعاون.
كما أن العلاقة الزوجية التي تقوم على الشراكة تُحفِّز الطرفين على الاستمرار في العطاء، حتى في ظروف الشعور بالتعب والإرهاق. التواصل الإيجابي والاعتراف بالجهد، حتى في التفاصيل الصغيرة، يخلق بيئة مليئة بالتقدير، ما يعزز من استقرار الأسرة ككل.
كيف يكون الأب داعمًا؟ خطوات بسيطة ولكن فعالة
هناك طرق عديدة يُمكِن للأب من خلالها أن يكون داعمًا بشكل فعّال. لا يتطلّب الأمر جهدًا خارقًا، بل حضورًا حقيقيًا. أولًا، على الأب أن يبادر بالاستماع الجيد، من دون تقديم حلول فورية، فقط الاستماع. هذا وحده يُشعر الأم بأنها ليست وحدها.
ثانيًا، تُعتبَر المشاركة الفعلية في المهام اليومية شكلًا قويًا من الدعم. سواء في تغيير الحفاض، أو تجهيز زجاجة الحليب، أو حتى اللعب مع الطفل لوقت قصير، فكل هذه التفاصيل تصنع فرقًا.
ثالثًا، التعبير عن الامتنان. عبارة بسيطة مثل “شكرًا لأنك تهتمين بطفلنا” لها تأثير كبير على نفسية الأم، وتخلق بينهما رابطًا عاطفيًا قويًا.
رابعًا، تشجيع الأم على العناية بنفسها. على الأب أن يخصّص وقتًا لتكون الأم قادرة على النوم، أو الخروج، أو حتى القراءة. هذه الاستراحات القصيرة تُعيد للأم طاقتها وتُحسّن حالها النفسية.
الخلاصة
لذلك، لا يُعتَبَر وجود الأب الداعم رفاهية، بل يُشكّل منذ البداية حجر الأساس لبناء بيت صحي ومستقر. ثمّ يُحدث هذا الوجود فرقًا حقيقيًا، إذ يتخطّى اللحظة، ويصنع حاضرًا متوازنًا، ويُمهّد طريقًا لمستقبل مزدهر لكل من الأم والطفل. أيضًا، تُعزّز كل كلمة مشجعة الرابط العاطفي، وتُرسّخ كل لحظة مشاركة شعور الأمان، وتُعمّق كل تعبير عن الحب روح الانتماء داخل الأسرة. وهكذا، يترك الأب بصمته في كل تفصيل صغير، ويُضيف بقربه معنى أعمق للعائلة بأكملها. ومن الجدير بالذكر أنّنا سبق وكشفنا لكِ كيف يؤدّي الخوف من المواجهة داخل العائلة إلى خلق مسافة لا تُرى.
وبرأيي الشخصي كمحرّرة، أرى أن المجتمع اليوم يحتاج وبشدة إلى تغيير النظرة التقليدية لدور الأب. في الواقع، لا يكفي أبدًا أن يقدّم الأب الحضور المادي فقط. بل على العكس، يجب أن يُظهر وجودًا فعليًا، ويؤدي دورًا حقيقيًا، ويقدّم دعمًا عاطفيًا ومتعاطفًا بكل تفاصيله. في كل أسرة، لا يتحمّل فرد واحد المسؤولية وحده، بل تُبنى الشراكة الحقيقية من خلال التعاون، وتزدهر فقط بالحب والدعم والتقدير المتبادل. لذلك، عندما يدرك الأب أهمية دوره، ويشارك بصدق، يشعر الجميع بالأمان. وهنا، يتحوّل البيت تدريجيًا إلى ملاذ دافئ. كما ينشأ الطفل في بيئة مليئة بالثقة، وينمو بشخصية متوازنة، ويكبر باستقرار داخلي يجعله أقوى في مواجهة الحياة.
