تُعَدّ علامات التوحد عند الأطفال من أكثر المؤشرات التي تثير القلق لدى الأمهات، خصوصًا عندما تبدأ التصرفات غير المعتادة بالظهور على الطفل في عمر مبكر. لا شك أن التوحد اضطراب نمائي عصبي يؤثر في تفاعل الطفل الاجتماعي وتطوّره اللغوي وسلوكه العام. وبما أن اكتشاف الحالة في وقت مبكر يُعتبر مفتاحًا للعلاج الفعّال، فمن المهم جدًا أن تكوني على دراية بالعوارض التي قد تشير إلى وجود خلل ما.
في هذا المقال، سنستعرض أبرز علامات التوحد عند الأطفال، ونوضح متى تستدعي القلق، ومتى يجب مراجعة الطبيب. سنتطرّق إلى الكشف عن المؤشرات المبكرة، والأسباب العلمية المحتملة، وأدوات التشخيص، إضافةً إلى دور الأم في دعم الطفل. كل ذلك بلغة علمية مبسّطة، وبدون مبالغة، لضمان وصول المعلومة بدقة وإنسانية في آن واحد.
ضعف التواصل البصري
يُعَدّ غياب التواصل البصري من أوائل علامات التوحد عند الأطفال. يبدأ الطفل الطبيعي بالنظر إلى وجه أمه منذ الأسابيع الأولى، بينما يتجنّب طفل التوحد النظر في العينين، حتى أثناء الرضاعة الطبيعية أو التفاعل اليومي.

يُعَدّ عدم استجابة الطفل للابتسامة أو لمظهر الوجوه المألوفة مؤشرًا حاسمًا. في عمر الستة أشهر، يُفترض أن يبدأ الطفل بالابتسام استجابةً لابتسامة الآخرين. أما إذا بدا غافلًا عن وجود الآخرين أو غير مهتم بالتحية أو التفاعل، فهذا قد يكون سببًا للشعور بالقلق.
تأخر النطق أو فقدان المهارات المكتسبة
من أبرز علامات التوحد عند الأطفال التأخر الواضح في تطوير اللغة. في عمر السنة، يتوقّع أن ينطق الطفل بكلمات بسيطة مثل “بابا” أو “ماما”. أما إذا تجاوز العام من دون نطق كلمات واضحة، أو بدأ الكلام ثم توقف فجأة، فقد يكون الأمر مرتبطًا بالمعاناة من التوحد.
الأهم من ذلك، هو مراقبة كيف يستخدم الطفل الكلمات. قد يكرّر الأطفال الذين يعانون من التوحد نفس العبارات (Echolalia)، أو يتحدثون بأسلوب غير مفهوم. كما أنهم نادرًا ما يستخدمون الإشارات، مثل الإشارة باليد عند الرغبة في شيء، وهذا مؤشر مقلق للغاية.
سلوكيات متكررة واهتمامات ضيقة
يُعَدّ السلوك النمطي المتكرّر أحد السمات الأساسية للمعاناة من التوحد. من أمثلة ذلك: التلويح المستمر باليدين، والتدوير بالأصابع، وهزّ الرأس، أو ترتيب الألعاب بشكل متكرّر من دون غرض واضح. كما يظهر لدى بعض الأطفال ارتباط مفرط بلعبة معينة، أو رفض التغيير في الروتين اليومي.

لا يتطوّر هذا النوع من السلوك مع العمر، بل يصبح أكثر وضوحًا. إذا لاحظتِ أن طفلك يصرّ على نمط معيّن من الأنشطة، أو يصاب بنوبات غضب حادة عند حدوث تغيير بسيط، فقد تكون هذه علامة واضحة تتطلّب تدخلًا طبيًا.
غياب اللعب التخيلي والعاطفي
من المؤشرات المهمة أيضًا أن الطفل لا يشارك في “اللعب التخيلي”. لا يتظاهر بإطعام الدمية، أو التحدث معها، كما يفعل الأطفال الطبيعيون. هذا الغياب يعكس عدم القدرة على فهم العواطف أو التعبير عنها.
قد لا يبدي طفل التوحد أي تعاطف مع من يتألم، ولا يتفاعل مع المواقف الاجتماعية كالحزن أو الفرح. كما أنه غالبًا لا يشارك الأطفال الآخرين اللعب أو لا يبادر للتواصل معهم. مما يزيد من عزلته ويؤكد وجود مشكلة في التفاعل الاجتماعي.
متى يجب أن تزوري الطبيب؟
ليس كل تأخر في النطق أو تصرف غريب يعني وجود توحد. ولكن، في حال اجتمعت أكثر من علامة مما ذكرنا أعلاه، وظهر ذلك قبل عمر ٣ سنوات، فالخطوة التالية تكون استشارة الطبيب المختص.

غالبًا ما يعتمد الأطباء على اختبارات علمية مثل M-CHAT (Modified Checklist for Autism in Toddlers) لتقييم الحال. يُحدِث التشخيص المبكر فرقًا كبيرًا في العلاج، لأنه يسمح بالتدخّل المبكر من خلال جلسات سلوكية وتربوية وعلاج وظيفي. ما يحسّن من مهارات الطفل بشكل فعّال.
الخلاصة
قد تمرّ علامات التوحد عند الأطفال أحيانًا من دون أن تلاحظها الأم في البداية، خصوصًا إذا لم تكن لديها الخبرة الكافية. لكن المراقبة الدقيقة للسلوك والتطوّر، خصوصًا في السنوات الثلاث الأولى، تؤدّي دورًا محوريًا في الكشف المبكر. كلما تم التشخيص في عمر مبكر، زادت فعالية العلاج وارتفعت فرص التحسّن. ومن الجدير بالذكر أنّنا سبق وكشفنا لكِ عن كيفيّة التعامل مع الطفل الفضولي من دون توتّر.
وبرأيي الشخصي كمحرّرة، أؤمن أن دور الأم في مواجهة علامات التوحد عند الأطفال يتجاوز بكثير مجرد المراقبة الصامتة؛ بل عليها أن تتحلّى بالقوة والوعي لتكون صوت طفلها حين لا يستطيع التعبير، وعينه حين تغيب نظرة الفهم من المجتمع. لا تُعَدّ المتابعة الدقيقة مع الأطباء والمعالجين، والمطالبة بالحق في دمج الطفل ضمن بيئة تعليمية داعمة، مجرّد خطوات ثانوية، بل هي أساس طريق العلاج. كذلك، فإن الدعم النفسي للأم نفسها لا يقلّ أهمية، لأنها حجر الأساس في هذه الرحلة الطويلة. التوحد ليس حُكمًا بالإقصاء أو العجز، بل هو شكل مختلف من الفهم والتواصل، وكلّما أحاط الطفل بمن يؤمن بإمكانياته، ازدهرت فرص تطوّره. فليكن الحب سلاحها، والصبر دربها، والعلم مرشدها.