تتكرّر عبارة “كل شوي سؤال!” في يوميات الأمهات، خاصة في السنوات الأولى من عمر الطفل. يفيض في تلك المرحلة طرح الأسئلة من فم صغيركِ: ليش؟ وكيف؟ وشو يعني؟ ورغم أن هذه الأسئلة تُعبّر عن وجود ذكاء طبيعي وفضول صحي، لكن قد تُسبب لكِ كثرتها الشعور بالإرهاق والتعب، خصوصًا مع خوض ضغوط الحياة اليومية.
في هذا المقال، نستعرض سويًا الأسباب النفسية والعلمية وراء فضول الطفل، ونقدّم لكِ اتباع خطوات عملية لاحتواء هذه المرحلة الحسّاسة بدون أن تفقدي أعصابكِ. سنُضيء على بعض الأبحاث التي تؤكّد أهمية الاستجابة للأسئلة الفضولية، وسنرشدكِ إلى كيفيّة تحويل هذه المواقف إلى فرص للنمو والتواصل مع طفلكِ.
افهمي أن السؤال هو وسيلة للنمو
حين يطرح طفلكِ “كل شوي سؤال!” فهو لا يزعجكِ، بل يُمارس حقّه الطبيعي في التعلّم. تشير دراسة لجامعة هارفرد إلى أن الأطفال بين عمر 2 و5 سنوات يطرحون ما بين 200 و300 سؤال يوميًا. يُعزّز هذا السلوك تنمية مهارات التفكير النقدي، وبناء المفاهيم، واستيعاب العالم من حولهم. لذلك، توقّفي عن رؤية الأسئلة كإزعاج، وابدئي برؤيتها كأدوات لبناء شخصية واثقة وفضولية.

استخدمي نبرة هادئة ولطيفة
ابدئي بالرد بصوت هادئ ونبرة حنونة، حتى لو كنتِ متعبة. أظهرت دراسة من جامعة ميشيغان أنّها تؤثّر نبرة صوت الأم عند التفاعل مع طفلها بشكل مباشر على درجة استقباله للمعلومة واستجابته العاطفية. إذا أحسّ طفلكِ أنكِ منزعجة، قد يتوقف عن طرح السؤال.. لكن داخله سيبقى مليئًا بشعور الخوف أو الارتباك من التعبير لاحقًا. حافظي على هدوئكِ، فهذا أول درس تعلّمينه له عن التواصل الآمن.
لا تُجبري نفسكِ على معرفة كل شيء
لا بأس أن تقولي لطفلكِ: “ما بعرف، بس منبحث سوا”. تُعلمينه بهذه الطريقة، مهارة البحث، وتُظهرين له أن الجهل ليس عيبًا بل دافعًا للتعلّم. خصّصي وقتًا أسبوعيًا للبحث معه في الأسئلة التي لا تملكين لها جوابًا، سواء من خلال الاطلاع على كتب الأطفال أو مشاهدة فيديوهات علمية مناسبة لعمره. تبنين بهذا علاقة تعليمية قائمة على الشراكة والاحترام.

خصّصي وقتًا يوميًا لأسئلته
إذا لاحظتِ أن طرح الأسئلة يتكرّر في أوقات غير مناسبة (مثل وقت الطهو أو قيادة السيارة)، قولي له بحب: “هلّا بكتب سؤالك ونجاوب عليه بعدين”. ثم خصّصي وقتًا قصيرًا يوميًا (10-15 دقيقة) لتجلسي معه وتناقشي كل ما دار في ذهنه. تُشعرينه باتباع هذه الخطوة، بأنه شخص مسموع ومهم، وتنظّمين في نفس الوقت وقتكِ من دون شعور بتوتر.
وجّهي الفضول نحو التعلّم العملي
حوّلي بعض الأسئلة إلى أنشطة. مثلًا، إذا سأل: “ليش القمر بيطلع بالليل؟” خذيه إلى النافذة مساء، واشرحي له الفكرة من خلال القيام بالرسم أو رؤية النماذج. يُثبّت التعلّم الحسي المعلومة أكثر، ويمنحه شعورًا بالمشاركة. تُثبت الأبحاث في مجال التربية الحديثة أن الطفل يتعلّم أكثر عندما يربط المعلومة بالحركة أو التجربة.

ضعي حدودًا بلطافة
يُعدّ وضع الحدود ضروري رغم أهمية الإجابة. إذا شعرتِ بالتعب، عبّري عن ذلك بصدق: “أنا بحب تجاوبك، بس هلّا كتير تعبانة. ومنكمّل بعد شوي”. تُعلمينه بهذه الطريقة، أهمية التعاطف واحترام مشاعركِ، من دون أن يشعر بالرفض أو الإهمال العاطفي. يفهمون الأطفال أكثر مما نظن، فقط كوني صادقة وواضحة.
ثبّتي عادة “سؤال اليوم”
اسأليه في نهاية كل يوم: “شو أكتر شي خطر ببالك اليوم؟” واجعليها عادة يومية قبل الخلود للنوم. يُخفّف اتباع هذه الخطوة من عشوائية طرح الأسئلة خلال النهار، وتمنحه مساحة ثابتة للتعبير. كما تُتيح لكِ فرصة التقرّب منه أكثر، ومعرفة ما يدور في داخله من دون ضغوط.
لا تجيبي فقط.. بل اسألي أيضًا
حوّلي المحادثة إلى طريق مزدوج. عندما يطرح طفلكِ سؤالًا، لا تكتفي بتقديم الإجابة، بل اسأليه أيضًا: “وأنتَ، ما رأيك؟”، أو “لماذا تعتقد أن هذا يحدث؟”. تُشجّعينه بهذه الطريقة، على تعزيز التفكير النقدي، وثقته بنفسه.
أظهرت دراسة نُشرت في Journal of Applied Developmental Psychology أنّ الأطفال الذين يتلقّون استجابات محفّزة ومحاورة من ذويهم، يُظهرون مهارات لغوية أعلى، ومرونة عقلية أفضل على المدى الطويل، لذلك لا تهملي قوة طرح السؤال العكسي، حتى لو كان بسيطًا.. يُحفّز ذلك دماغ الطفل أكثر من تقديم الإجابة جاهزة.
تدلّ عبارة “كل شوي سؤال!” على وجود طفل نابض بالحياة، ويعيش في عالم مليء بالاكتشافات، ويبحث عن من يمنحه شعور الأمان والاهتمام الكافي لطرح كل ما يدور في ذهنه. قد يُتعبكِ هذا الفضول أحيانًا، وقد يُربك جدول يومكِ، لكنّه في الحقيقة جسرٌ يبنيه صغيركِ معكِ ليصل إلى مرحلة الفهم، ويعبّر عن أفكاره ومخاوفه وحبّه. أخيرًا سبق وكشفنا لكِ عن كيفيّة التعامل مع الطفل الذي يصرّخ في الأماكن العامّة.
وبرأيي الشخصي كمحرّرة، أؤمن أن كل أمّ قادرة على تحويل اللحظات اليومية البسيطة إلى محطات مؤثرة في ذاكرة طفلها. لا يتطلّب الردّ على الأسئلة معرفة موسوعية، بل يحتاج فقط إلى قلب هادئ، وصوت مطمئن، وابتسامة تشجّع لا تُخيف. حين تُقرّرين أن تكوني رفيقة فكر طفلكِ لا فقط مربيّته، ستحصدين علاقة عميقة تبقى معه مدى الحياة. فاستمتعي بمرور تلك المرحلة.. حتى لو كانت مليئة بالأسئلة، فهي في الحقيقة مليئة بالحبّ.