في عالم يشهد تطورات تقنية متسارعة، يقف الذكاء الاصطناعي في طليعة تلك الابتكارات، حيث تتجلّى إمكاناته بشكل خاص في مجال الطبّ والرعاية الصحية، وقد باتت هذه التكنولوجيا لا تقتصر على تسهيل المهام التقليدية فحسب، بل أصبحت تؤدّي دورًا محوريًا في تحسين دقّة التشخيصات الطبيّة، وتقديم حلول وقائيّة قبل حدوث الأمراض.
في هذا السياق، يُعدّ سرطان الثدي بمختلف أنواعه أحد أخطر الأمراض التي تواجه النساء حول العالم، ومع تزايد معدّلات الإصابة به، يأتي دور الذكاء الاصطناعي ليقدّم لنا أداة قويّة للتنبؤ بظهوره قبل سنوات من تشخيصه بواسطة الطرق التقليديّة، وفي إطار الجهود المبذولة لمكافحة هذا المرض، نجح باحثون من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا MIT في تطوير نظام يعتمد على تعلم الآلة يمكنه التنبؤ بظهور سرطان الثدي قبل أربع سنوات من اكتشافه بالطرق التقليدية.
خوارزمية “ميراي”: قفزة نوعية في التنبؤ بالسرطان
أحد أعظم الإنجازات في هذا المجال هو تطوير خوارزمية ذكاء اصطناعي تُعرف باسم “ميراي”، التي تمّ تصميمها لتحليل صور الأشعة السينيّة للثدي، والمعروفة بالماموجرام، حيث يفحص هذا النظام المتطور الماموجرامات لاكتشاف التغيّرات الدقيقة التي قد تشير إلى تطور سرطان الثدي، حتّى وإن كانت لا تزال غير مرئيّة للعين المجرّدة أو للوسائل التشخيصيّة التقليديّة.
تتميز خوارزمية “ميراي” بقدرتها الفائقة على تقديم تقديرات دقيقة لاحتمالات الإصابة بسرطان الثدي بناءً على بيانات الماموجرامات، من دون الحاجة إلى الاعتماد على معلومات إضافيّة مثل العمر أو التاريخ الطبي للعائلة، وهذا النهج المبتكر يتيح تقديم تقييمات دقيقة للمخاطر لكلّ حال على حدة، ما يمهّد الطريق نحو تطبيق استراتيجيات كشف مبكر مخصّصة لكلّ مريضة.
المساواة في الدقة عبر مختلف الفئات السكانية
ما يجعل خوارزمية “ميراي” فريدة من نوعها هو قدرتها على الحفاظ على مستوى عالٍ من الدقة في التنبؤات عبر مختلف الفئات السكانية، بغضّ النظر عن العرق أو العمر أو كثافة أنسجة الثدي، وتعدّ هذه الخاصية خطوة كبيرة نحو تحقيق العدالة الصحيّة، خاصّةً أنّ الدراسات السابقة أشارت إلى أن النساء من ذوي البشرة السمراء يواجهن معدلات وفاة أعلى بسبب سرطان الثدي بنسبة 43% مقارنة بنظيراتهنّ من البيض، ومن هنا، تمكنت “ميراي” من تحقيق تقدم كبير في الحدّ من هذا التفاوت، ممّا يجعلها أداة فعّالة في تحسين نتائج التشخيص والعلاج للمجموعات المختلفة، ويؤكّد أنّ الأبحاث الجديدة في علاج سرطان الثدي تضيء الأمل في المستقبل.
التكامل في الرعاية السريريّة
لكي تصبح خوارزمية “ميراي” جزءًا من الرعاية السريريّة اليوميّة، كان لا بد من إجراء تحسينات خوارزمية كبيرة والتحقق من فعاليتها عبر بيئات سريرية مختلفة، لذا اعتمد الباحثون في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا على مجموعة ضخمة من البيانات، حيث تم تدريب “ميراي” على أكثر من 200,000 صورة ماموجرام من مستشفى ماساتشوستس العام، وتمّ اختبارها في مؤسسات طبية مرموقة أخرى مثل معهد كارولينسكا في السويد ومستشفى تشانغ غونغ التذكاري في تايوان.
لقد أظهرت “ميراي” نتائج باهرة، حيث تفوّقت في دقّتها على النماذج السابقة مثل نموذج “تايرر-كوزيك”، وأثبتت قدرتها على التنبؤ بمخاطر وعوارض الإصابة بسرطان الثدي المبكرة بدقّة تصل إلى ضعف النماذج التقليديّة، ولضمان تكاملها في الرعاية السريرية، تم تثبيت هذه التقنية حاليًا في مستشفى ماساتشوستس العام، حيث يتم استخدامها لتحسين استراتيجيات الكشف المبكر وتحديد المجموعات الأكثر عرضة للخطر.
مستقبل الرعاية الصحية
يمثّل تطوير خوارزمية “ميراي” خطوة نوعيّة نحو فحص سرطان الثدي الشخصي، ممّا يسهم في تحسين نتائج المرضى وتقديم رعاية صحيّة أكثر دقّة، فبفضل التحسينات المستمرة التي تجرى على هذه التقنية، بما في ذلك استخدام التاريخ الكامل للصور الشعاعية للمريضات واعتماد تقنيات تصوير أكثر تقدّمًا مثل التصوير المقطعي للثدي (التوموسينثيسيس)، يتمّ العمل على تحسين وتطوير خوارزمية “ميراي” لتصبح أكثر تكيّفًا مع الاحتياجات الفرديّة للمرضى.
إن القدرة على تقديم فحوصات أكثر دقّة وحساسية للمريضات المعرّضات لمخاطر عالية مع تقليل الحاجة إلى الإجراءات غير الضرورية لدى الآخرين، يساهم بشكل كبير في تقليل العبء النفسي والجسدي على المرضى، ولذا يُتوقَّع أن يؤدّي الذكاء الاصطناعي دورًا أكبر في المستقبل القريب في تحسين جودة الرعاية الصحيّة والكشف المبكر عن الأمراض.
ختامًا، يُظهر تطور خوارزمية “ميراي” كيف يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكون أداة قوية في أيدي الأطباء والباحثين، ليس فقط للتنبّؤ بظهور الأمراض، بل أيضًا لتقديم حلول وقائية فعالة، ومع استمرار التطورات التكنولوجية في هذا المجال، يمكننا أن نتطلّع إلى مستقبل مشرق تتوفّر فيه تقنيات متقدّمة تسهم في تحسين صحّة وجودة حياة الناس في جميع أنحاء العالم.
إن الدمج الناجح والمتكامل بين التكنولوجيا المتطوّرة والطبّ الحديث يمثّل خطوة حاسمة وأساسية نحو تحقيق هذا الهدف الطموح، حيث يُعزِّز من فرص النجاح في مكافحة الأمراض المزمنة بأسلوب أكثر فعالية وابتكارًا، ويوفر للأطباء والباحثين أدوات متقدّمة لاستباق التحدّيات الصحيّة والسيطرة عليها في مراحلها المبكرة، ممّا يسهم في تحسين جودة الحياة وتقليل العبء على المنظومات الصحية العالمية. ومن الجدير بالذكر أنّنا سبق وأطلعناكِ على تفاصيل تجربة أول إمرأة تحصل على لقاح سرطان الثدي.