تُعَدّ المشاعر الباردة من الظواهر النفسية التي تثير الحيرة. فبعض الأشخاص يظهرون مشاعر باهتة أو تفاعلًا عاطفيًا شبه معدوم حتى في مواقف تتطلب تعاطفًا واضحًا. قد يُفهَم هذا النوع من البرود أحيانًا على أنه قوة شخصية، أو توازن عاطفي. لكن، هل فعلًا يُعتبَر هذا السلوك طبيعيًا؟ أم أنه مؤشّر خفيّ على وجود اضطراب داخلي أو تجارب نفسية أعمق؟
في هذا المقال، سنستعرض مفهوم المشاعر الباردة بشكل علمي، ونفصل بين البرود العاطفي الطبيعي والمرضي. سنشرح أسبابها المحتملة، ثم نعرض علامات الخطر التي تتطلب تدخلًا نفسيًا. كما سنقارن بين السمات الشخصية والانغلاق العاطفي. في النهاية، نقدم نصائح للتعامل مع هذه الحال بوعي واتزان.
ما هي المشاعر الباردة؟
تبدأ المشاعر الباردة بالظهور على شكل ردود فعل باهتة أو حيادية في مواقف شديدة التأثير. على سبيل المثال، عند تلقّي خبر وفاة، لا يُظهر الشخص أي انفعال. أو عند سماع قصّة مؤلمة، لا يتعاطف ولا يتفاعل. يطلق علم النفس على هذه الظاهرة أحيانًا “التبلد العاطفي”.

بحسب الدليل التشخيصي للاضطرابات النفسية (DSM-5)، يُلاحظ هذا النوع من البرود في حالات مثل الاكتئاب الشديد، واضطراب ما بعد الصدمة، وبعض الاضطرابات الشخصية. ولكن، في بعض الأحيان، لا يكون ناتجًا عن اضطراب نفسي بل عن تربية قاسية، وصدمات قديمة، أو حتى طبيعة شخصية تميل إلى التحليل بدلًا من التفاعل.
متى تكون المشاعر الباردة طبيعية؟
في كثير من الحالات، تكون المشاعر الباردة مجرد سمة من سمات الشخصية. فبعض الأفراد يملكون ما يُعرف بالشخصية العقلانية أو المتزنة. هم لا يندفعون في مشاعرهم، ويفضلون الصمت على البوح، والتحليل على الانفعال.
لا يعني هذا النوع من البرود عدم وجود مشاعر، بل يعني فقط أن الشخص لا يُظهرها بسهولة. في مواقف الحزن أو الفرح، قد يحتفظ بمشاعره لنفسه، ويتفاعل داخليًا لا خارجيًا. هنا، لا يُعَدّ البرود مشكلة، بل طريقة تعامل فريدة تختلف عن الأسلوب العاطفي السائد.
لكن من المهم التفريق بين البرود الطبيعي، الذي لا يؤذي صاحبه أو من حوله، وبين البرود المرضي، الذي قد يؤثر في العلاقات والصحة النفسية بشكل عام.
متى تُصبح المشاعر الباردة علامة خطر؟
في بعض الحالات، قد تشير المشاعر الباردة إلى وجود مشكلة أعمق. قد تؤدي الصدمة النفسية، خصوصًا في الطفولة، إلى انغلاق عاطفي تام. الأطفال الذين لم يشعروا بالأمان أو تم تجاهل مشاعرهم، غالبًا ما يكبرون وهم يعتقدون أن التعبير عن العاطفة ضعف.

أيضًا، إنّ المعاناة من اضطرابات مثل الاكتئاب، واضطراب الشخصية الفصامية، واضطراب ما بعد الصدمة، قد تُسبب انقطاعًا حادًا في الاتصال العاطفي. يشعر الفرد هنا وكأن المشاعر لا معنى لها أو لا حاجة لها، ويتصرف بجمود حتى في أكثر المواقف حساسية.
من العلامات التي تدعو للقلق:
- عدم التفاعل مع المواقف المؤثرة.
- انعدام الإحساس بالذنب أو التعاطف.
- صعوبة في تكوين علاقات عاطفية.
- شعور داخلي بالخواء أو الانفصال عن الذات.
إذا اجتمعت هذه المؤشرات، فهنا لا بد من استشارة مختصّ نفسي.
الأسباب النفسية والعصبية للمشاعر الباردة
علم النفس العصبي يفسر المشاعر الباردة أحيانًا بخلل في مناطق معينة من الدماغ مثل اللوزة الدماغية (amygdala) المسؤولة عن الانفعال. أوضحت بعض الدراسات أن الأشخاص المصابين بالتبلد العاطفي يُظهرون نشاطًا أقل في هذه المنطقة، ما يضعف الاستجابة العاطفية.
أما من الناحية النفسية، فإن كثرة التعرض للضغوط أو الصدمات تُجبر الدماغ على تطوير آلية دفاع تُعرف باسم “التسطيح العاطفي”. بهذه الطريقة، يحمي الإنسان نفسه من الانهيار العاطفي، لكنه يفقد تدريجيًا قدرته على التفاعل الطبيعي.
العلاقات المؤذية، والإهمال العاطفي، والصدمات المتكررة، أو حتى الضغوط الاجتماعية الطويلة، قد تُنتج فردًا بارد المشاعر كوسيلة للبقاء.
كيف نتعامل مع الأشخاص ذوي المشاعر الباردة؟
قد يُسبّب التعامل مع من يملكون المشاعر الباردة نوعًا من الإحباط أو الجرح العاطفي، خصوصًا في العلاقات العائلية أو الزوجية. لكن فهم السبب يساعدنا على التعامل برحمة بدلًا من الغضب.

أولًا، لا بدّ من تقبّل اختلاف هذا الشخص من دون اتهامه بالأنانية أو الجفاء. ثانيًا، يمكن تشجيعه على التعبير بطريقة تدريجية، مثل الكتابة أو الحديث عن مواقف بسيطة. ثالثًا، إذا كان البرود ناتجًا عن صدمة أو مرض نفسي، من الأفضل دعمه للذهاب إلى مختصّ.
في بعض الحالات، يكون هذا الشخص بحاجة ماسة للمساعدة، حتى لو لم يُظهِر ذلك. لذا، لا نُهمل الإشارات، ولا نفترض أن الهدوء دائمًا علامة قوة.
الخلاصة
قد تكون المشاعر الباردة سمة طبيعية أو علامة على المعاناة من اضطراب نفسي دفين. يعتمد الفرق بين الحالين على السياق، وعلى وجود عوارض مرافقة أخرى. في جميع الأحوال، لا يجب الحكم على الأشخاص من مظاهرهم السطحية. فالكثير من القلوب الباردة في الظاهر، تخفي ألمًا كبيرًا في الداخل. ومن الجدير بالذكر أنّنا سبق وكشفنا لكِ عن علامات كره الزوج لزوجته.
وبرأيي الشخصي كمحرّرة، أجد أن فهم المشاعر الباردة يتطلب وعيًا عميقًا وشفقة صادقة. علينا التوقف عن تصنيف الناس وفق انفعالاتهم الظاهرة، والبدء في الإصغاء إلى ما لا يُقال. في مجتمعاتنا التي تُشجع الانفعال العلني، يجب أن نتقبل بأن بعض الأرواح تعيش بصمت، وتحب بصمت، وتتألم بصمت. والاحتواء لا يتطلب ضوضاء، بل دفئًا هادئًا قادرًا على إذابة الجليد مهما كان سميكًا.