تتساءل الكثير من الأمهات بقلق: طفلي يتعلّق فيني بشكل مفرط.. هل هذا طبيعي؟ يبدو السؤال بسيطًا، لكنه يُخفي خلفه مشاعر كثيرة: الشعور بالتعب، والضغط، والذنب، كما يزيد شعور الخوف حيال الأخطاء التربوية. لا تستطيعين مغادرة الغرفة، ولا حتى الذهاب إلى المطبخ، من دون أن يتبعكِ صغيركِ بنظرات القلق وتمسّكه بملابسكِ وكأنه إن ابتعدتِ قليلًا سينهار العالم.
من هنا، يبدأ حديثنا اليوم، سنُسلّط الضوء على ظاهرة التعلّق الزائد بالأم، ونشرح متى تُعَدّ هذه الحال طبيعية ضمن تطوّر الطفل، ومتى تصبح مؤشّرًا يستحق المتابعة. سنتناول الأسباب الخفيّة خلف هذا السلوك، والمؤشّرات التي تتطلّب انتباهًا، ونُقدّم خطوات عمليّة مدروسة لتوجيه الطفل نحو الاستقلال العاطفي بطريقة سليمة وآمنة.
نفهم طبيعة التعلّق العاطفي
نبدأ بالتعريف، عندما نقول: يتعلّق طفلي فيني بشكل مفرط، فنحن نتحدث عن سلوك يتعدّى التعلّق الطبيعي المرتبط بعمر الطفل. يحتاج كل طفل إلى أمه، خاصّةً في السنوات الثلاث الأولى. لكن يعني التعلّق المفرط عدم قدرة الطفل على اللعب أو النوم بمفرده، أو حتى البقاء مع أشخاص آخرين من دون الدخول في نوبة بكاء أو شعور بالخوف.

يُعرف هذا النوع من التعلّق باسم “التعلّق القَلِق” أو “غير الآمن”. بحسب نظرية التعلّق التي وضعها الطبيب النفسي جون بولبي، يشعر الطفل بالأمان عندما يعرف أن الأم موجودة دائمًا. لكن إن لم يحصل على هذا الإحساس بثبات، يبدأ بالشعور بالخوف، ويُظهر سلوكيات مفرطة كالبكاء، والغضب، أو التمسّك.
نكتشف الأسباب العاطفيّة والسلوكيّة
نُدرك أنه لا يحدث التعلّق فجأة. بل يتطوّر نتيجة تفاعلات مستمرّة بين الأم والطفل. في كثير من الحالات، يظهر هذا السلوك بعد:
- تغيير مفاجئ مثل انتقال السَكن.
- دخول الطفل إلى الحضانة.
- ولادة أخ جديد.
- عودة الأم إلى العمل.
تُظهر الدراسات، مثل دراسة نُشرت في Early Childhood Research Quarterly، أن الأطفال الذين يواجهون انفصالًا مفاجئًا عن أمّهاتهم من دون تحضير، يُطوّرون أنماطًا سلوكية دفاعية، أبرزها التعلّق المفرط.
لا شكّ أن الحماية الزائدة من الأم، أو الاستجابة المبالغ بها لكلّ بكاء، تُعزّز هذا النمط من دون أن تشعر. لذلك، يؤثّر كل تصرّف صغير في الروتين اليومي مباشرة في شخصيّة الطفل.
نُميّز بين الطبيعي والمقلق
نطرح الآن السؤال الأساسي: متى يكون التعلّق طبيعيًا؟ ومتى يتحوّل إلى مشكلة؟ إذا كان الطفل دون عمر الثلاث سنوات، فقد يكون التعلّق مؤقتًا. يشعرون الأطفال في هذه المرحلة بالخوف من الغرباء ويحتاجون وجود الأم.

لكن، عندما يستمر التعلّق بعد عمر الأربع سنوات، ويُعيق ممارسة الأنشطة اليومية، أو يمنع الطفل من اللعب أو الذهاب إلى المدرسة، فهنا نكون أمام مشكلة تستحق التدخّل.
من المؤشّرات المقلقة:
- رفض اللعب بدون الأم.
- بكاء مستمر عند مغادرتها.
- تعلق شديد يصل إلى نوبات غضب أو صراخ.
- قلق ليلي مفرط أو كوابيس متكرّرة.
قد تشير كل هذه السلوكيات إلى الشعور بقلق الانفصال، وهو اضطراب معترف به في أدلة التشخيص النفسي مثل DSM-5، ويصيب الأطفال بنسبة 4% تقريبًا، حسب American Academy of Pediatrics.
نُعالج التعلّق بأساليب تربوية سليمة
نُقدّم الآن حلولًا عملية مبنيّة على أسس علميّة. أول خطوة: لا نلوم الطفل. بل نبدأ بتهدئته، ومنحه شعور الأمان من دون أن نبالغ في الاستجابة لكل طلب.
- نُطبّق الانفصال العاطفي التدريجي: نترك الطفل لدقائق قليلة مع أشخاص موثوقين، ونزيد المدة مع الوقت.
- نُعزّز الاستقلال: نطلب من الطفل القيام بمهام بسيطة وحده، مثل ترتيب ألعابه أو غسل يديه.
- نُكرّر الوداع: نُعلّمه أن الوداع لا يعني الغياب الدائم، بل نُشجّعه على قول “إلى اللقاء” والاطمئنان أننا سنعود.
- نُقدّم جدولًا يوميًا ثابتًا: يشعر الطفل بالراحة عندما يعرف ماذا سيحدث ومتى.
أثبتت أبحاث من Harvard Center on the Developing Child أن الروتين الثابت يُقلّل من اضطرابات التعلّق بنسبة 60%، ويُساعد الأطفال على بناء ثقة داخلية قوية.
نطلب المساعدة عند الحاجة
نُشجّع دائمًا على طلب المساعدة عند الضرورة. إذا استمر شعور التعلّق بعد عمر الخمس سنوات، أو أثّر على نوم الطفل وتواصله، يُفضّل استشارة مختصّ نفسي للأطفال.

أُثبت فاعلية العلاج السلوكي المعرفي (CBT) في هذه الحالات، كما يمكن إدخال الطفل في ممارسة أنشطة جماعيّة مثل الرياضة أو الفنون، لتعزيز استقلاليته تدريجيًا.
لا ننتظر تفاقم المشكلة. بل نتصرف مبكرًا لتأمين بيئة عاطفية وصحية ومتوازنة للطفل.
نُلخّص القول بأن جملة طفلي يتعلّق فيني بشكل مفرط ليست دائمًا سببًا للشعور بالذعر، لكنها دعوة للتأمّل في سلوكياتنا اليومية معه. نُلاحظ أنّ معظم حالات التعلّق الزائد تكون ناتجة عن مواجهة مشاعر القلق وعدم الاستقرار الداخلي عند الطفل. كل ما يحتاجه هو التدرّج، والتفهّم، والمساحة لاستكشاف العالم بأمان. أخيرًا، نشير أننا سبق وكشفنا لكِ عن عوارض التوحّد لدى الأطفال.
وبرأيي الشخصي كمحرّرة، أرى أن شعور التعلّق المفرط لا يعكس ضعفًا في شخصية الطفل، بل احتياجًا لم يُفهم بالشكل الصحيح. يصبح الطفل في سنواته الأولى مرآة لما نقدّمه له من أمان واحتواء.كما أنه لا يجب أن نخاف من مشاعره، بل أن نحاول فهمها ونوجّهها بلطف. أؤمن بأن التربية الواعية تبدأ من الإصغاء، وأن أقوى علاقة بين الأم وطفلها هي تلك التي تُبنى على الشعور بالثقة، لا على التعلّق غير المتوازن.