ينتابكِ سؤال: هل طبيعي أشتاق لحياتي قبل الأمومة؟ ويأتيكِ في لحظات الشعور بالتعب، حين تنطفئ طاقتكِ، ويغيب وقتكِ الخاص، ويتراجع صوتكِ الشخصي خلف صراخ طفل، أو سهر متواصل. لا يُظهر شعور الاشتياق لأنكِ لا تحبّين طفلكِ، بل لأنكِ فقدتِ شيئًا من ذاتكِ القديمة. يتسلّل شعور الحنين حين تتذكّرين لحظات الإحساس بالهدوء، والحرية، والحركة من دون تخطيط، والمساحة التي كنتِ تملكينها لنفسكِ.
لا يُعدّ هذا الإحساس خطأ ولا ضعفًا. بل يُمثّل جزءًا طبيعيًّا من التغيّرات العاطفية التي تمرّ بها كل أمّ. تُعتبر الصحة النفسية للأم عنصرًا جوهريًّا للحفاظ على الاستقرار العائلي، ولا يمكن حمايتها من دون فهم هذه المشاعر بوعي. نكشف في هذا المقال، أسباب الشعور بالحنين، ونوضّح كيف نتعامل معه بدون الشعور بتأنيب. مع تقديم أدوات حقيقية تساعدكِ على استعادة توازنكِ الداخلي، من دون أن تفقدي شعور متعة الأمومة.
واجهي شعور الحنين بدون خجل
ابدئي بالاعتراف الداخلي الصادق. لا تُقاومي ذلك الإحساس الذي يظهر فجأة حين تشعرين بأنكِ لم تعودي تملكين نفسكِ بالكامل. فشعور الحنين لا يعني ضعفًا، بل يعكس حاجتكِ العميقة لاستعادة جزء من توازنكِ الشخصي. لذا، لا تهمّشي ذلك الشعور، بل استقبليه كما هو، كرسالة داخلية تطلب منكِ التوقف، وإعادة الاتصال بجانب من هويتكِ كاد أن يبهت وسط ضجيج المسؤوليات.

افصلي بين الشعور والتقييم. لا تحكمي على نفسكِ، بل لاحظي ما تحسّين به. يمرّ جسدكِ ونفسكِ بتحوّلات مستمرّة منذ لحظة الولادة، وكلّ ما تعيشينه حقيقي ويستحق الاعتراف. احتضني هذا الحنين كإشارة للعودة إلى ذاتكِ، لا كهروب من الأمومة.
افهمي التحوّل الهرموني والعاطفي
كل مشاعر الأمومة تمرّ عبر سلسلة تغيّرات بيولوجية وعاطفية. راقبي ما يحدث لجسمكِ ومزاجكِ وحياتكِ بعد الولادة. يتغيّر معدّل هرمون السيروتونين، وينخفض مستوى الأوكسيتوسين تدريجيًا، خاصّةً بعد انتهاء فترة الرضاعة. يترك الشعور بهذه التقلّبات أثرًا واضحًا على مشاعركِ، وتجعلكِ أكثر حساسية، وأحيانًا أكثر ميلًا للانعزال أو الحنين للماضي.
بحسب دراسة نُشرت في مجلة Psychoneuroendocrinology، فإن النساء اللواتي يختبرن تغيّرات حادة في معدّل هرمون الأوكسيتوسين بعد الولادة يعانين من المرور بنوبات حنين لحياتهن السابقة بنسبة 60% أكثر من غيرهن. تُفسّر هذه الظاهرة شعور الاشتياق بأنها ليست مجرد فكرة، بل تفاعل فيزيولوجي حقيقي.
خصّصي وقتًا قصيرًا لنفسكِ
كلما منحتِ نفسك مساحة صغيرة، شعرتِ بتوازن داخلي أكبر، اعملي على استعادة بعض الجوانب التي كنتِ تحبينها. خصّصي ساعة في الأسبوع للمشي وحدكِ، أو للقراءة، أو حتى للقاء صديقة قديمة. استعيدي ولو تفصيلة واحدة من حياتكِ السابقة، فهي كفيلة بإعادة شحنكِ نفسيًا.

ركّزي على مفهوم “التوازن لا التخلّي”. لا تُحمّلي الأمومة مسؤولية شعوركِ بالتعب، بل اعترفي بأنها مرحلة تتطلّب إدارة مختلفة للوقت والطاقة. تساعدكِ اتباع هذه الطريقة على ربط شعور الماضي بالحاضر بشكل صحي، فتخفّ وطأة الشعور بالحنين، وتزداد قدرتكِ على تقبّل الوضع الجديد.
ابتعدي عن مقارنة نفسكِ بالأخريات
توقّفي عن مراقبة صور الأمهات على مواقع التواصل. لا تنظري إلى من تظهر بإطلالة مثالية أو حياة خالية من الشعور بالتعب. فكل أمّ تخوض معركتها الخاصة، وإن لم تُظهرها. ركّزي على قصتكِ أنتِ فقط، واحتفلي بكل ما أنجزتِه.
قيمي واقعكِ من خلال معاييركِ، لا من خلال تجارب الآخرين. عندما تبتعدين عن المقارنة، تُصبحين أكثر امتنانًا لما لديكِ، وتقلّ حاجتكِ للعودة إلى ماضٍ مثالي غير واقعي. فحنينكِ طبيعي، لكنه يجب أن لا يتحوّل إلى حال دائمة من الإنكار للواقع.
اطلبي الدعم وتحدّثي بصوت عالٍ
يحرّركِ الصوت الصادق من الضغط النفسي الخفي، تكلّمي واشرحي لشريككِ ما تشعرين به. ابحثي عن مجموعات دعم للأمهات اللواتي يعشن مشاعر مشابهة. لا تخجلي من قول: هل طبيعي أشتاق لحياتي قبل الأمومة؟ لأن هذا الاعتراف لا ينتقص من حبّكِ لطفلكِ، بل يثبت أنكِ إنسانة تشعر وتفكر وتحتاج.

تحدّثي مع أمّ أخرى، أو صديقة مقرّبة. استشيري مختصّة نفسية إن شعرتِ أن الشعور يضغط على نفسيتكِ. لا تهملي نفسكِ، فكلما كنتِ بخير، كنتِ أمًّا أقوى وأكثر حبًا.
الخلاصة
كرّري في ذهنكِ دائمًا: هل طبيعي أشتاق لحياتي قبل الأمومة؟ نعم، وبكل صدق، هذا شعور طبيعي ومشروع ولا يقلّل من قيمة الأمومة. بل هو انعكاس لحبكِ للحياة ولرغبتكِ في الشعور بالتوازن. لا تجعلي هذا الشعور يُربككِ، بل واجهيه وتعاملي معه كمرحلة مؤقتة، يمكن التغلّب عليها بالتفاهم والصبر والتعبير. ومن الجدير بالذكر أنّنا سبق وكشفنا لكِ كيف توازنين بين حبك لأطفالك وحاجتك لمساحة خاصة؟
وبرأيي الشخصي كمحرّرة، أرى أن الأمومة لا تُلغي المرأة التي كنتِ عليها، بل تضيف لها طبقة جديدة من العمق والعطاء والمسؤولية. فالتحوّل الذي تمرّ به المرأة بعد إنجاب طفل لا يعني بالضرورة أن تتخلى عن ذاتها القديمة أو تطمس رغباتها وأحلامها الشخصية. من الطبيعي أن تشتاقي لفترة كان فيها الوقت ملككِ، والقرارات أكثر تلقائية، والحياة أقلّ انشغالًا، لكن الأجمل أن تدركي أنّك اليوم امرأة أكثر اكتمالًا، قادرة على الجمع بين الحنان الذي تمنحينه لطفلكِ والطموح الذي تحتفظين به لنفسكِ. لا تنكري مشاعركِ، بل احتضنيها كجزء من هويتكِ المتجددة، واعملي على خلق مساحتكِ الخاصة وسط كل هذا العطاء، لأنّ تحقيق التوازن النفسي لا يأتي من الإنكار، بل من الاعتراف والدمج بين الأدوار، ليكون حضوركِ كاملًا ومرتاحًا في كل مراحل الحياة.