تدفّقت مشاعري بشكل مفاجئ، وانهالت دموعي بصمت لا يُنسى. عن أول مرة بكيت بسبب طفلي، لا يمكن محو تلك اللحظة من ذاكرتي. امتزجت فيها الأحاسيس بين شعور الحنان العميق، والإرهاق الخفيّ، والخوف من التقصير. أدركت في صمت الليل، وبين أنفاس طفلٍ نائم، أنني لست فقط جسدًا متعبًا، بل أمّ بدأت تتشكّل من جديد في داخلي.
ترتبط بداية مشوار الأمومة بمزيج عاطفي معقّد. لا تظهر دائمًا ملامحه على السطح، لكنه يُختزن في الذاكرة، ويعيد نفسه كلما اشتدّ شعور التعب أو الحنين. لهذا السبب، سأشارككِ اليوم تفاصيل شعورية وإنسانية مررتُ بها. سنتناول لحظات البكاء الأولى، والمفارقة العاطفية بين الشعور بالحب المطلق والشعور بالعجز، ثم نكشف متى يبدأ الإحساس الحقيقي بالأمومة، وما الذي يعزّزه ويمنحه المعنى.
حين تكون الدموع هي اللغة الوحيدة
تشعر الأم في بدايات الطريق بثقل غير مرئي. لا يعود الأمر مجرّد القيام بالمهام اليومية من رضاعة وتغيير حفاضات. بل تتحوّل الحياة إلى تحمّل مسؤولية متواصلة لا تتوقّف. شعرت في إحدى الليالي، فجأة بالعجز، وعن أول مرة بكيت بسبب طفلي، أتذكّر أنني لم أجد أحدًا يفهمني، كان طفلي يبكي باستمرار، لم أتمكّن من تهدئته، ولم أعد أملك طاقة المقاومة.

تشير دراسة صادرة عن جامعة هارفرد أنّه “تُعدّ الأسابيع الأولى بعد الولادة أكثر الفترات حساسية نفسيًا وعاطفيًا عند المرأة، إذ تتفاعل فيها معدلات الهرمونات مع مشاعر القلق والشعور بالذنب والارتباك، مما يُضعف القدرة على تنظيم الانفعالات”. لا يعني البكاء، في تلك اللحظات، الضعف. بل هو طريقة تفريغ ضرورية، تُخرج شعور الألم، وتفسح المجال لتحسين الحال النفسية.
عندما يتسلل الشعور بالذنب
يرتبط بكاء الأم غالبًا بالإحساس بالتقصير. تتساءلين دومًا: هل أنا أم جيدة؟ لماذا لا أتحمّل كل شيء بصمت؟ متى أعود لنفسي القديمة؟ تعمّق هذه الأسئلة شعور الحزن، وتزرع شعورًا بالخوف.
عن أول مرة بكيت بسبب طفلي، شعرت أنني لست كافية. نسيت أنني جديدة أثناء القيام في هذه المهمة. تجاهلت أن الأمومة لا تعني الشعور بالكمال، بل التعلم من كل خطوة. أكدت النتائج بحسب دراسة منشورة في The Journal of Perinatal Psychology، أن الاعتراف بالمشاعر الصعبة، بما فيها شعور الحزن أو الغضب، يساهم في خفض مستوى التوتر ويحسّن الصحة النفسية للأمهات خلال السنة الأولى بعد الولادة.
متى يبدأ الإحساس الحقيقي بأنكِ أم؟
تُعدّ الولادة البداية الرسمية للأمومة، لكن لا يظهر الشعور العميق بكونكِ “أمًّا فعلًا” فورًا، بل يبدأ تدريجيًا، مع كل لحظة احتضان، ومع كل مرّة تبتسمين رغم الشعور بالتعب. نظرتُ في إحدى المرات، لطفلي وهو ينام على صدري، وأدركت فجأة أنني مستعدّة لأفعل المستحيل لأجله. لم أعد أفكّر بنفسي فقط، بل أصبحت أرى العالم من خلاله.

ينمو الشعور بالأمومة مع التفاصيل الصغيرة: حين تلمسين يده، وحين تنجحين بتهدئته، وحين يتعرّف عليكِ من نظرة أو نبرة صوت. يصبح الحضور عاطفيًا أكثر من كونه جسديًا. تُشكّل هذه اللحظات، رغم بساطتها، التحوّل النفسي الأكثر عمقًا في رحلة الأمومة.
تحوّل الأمومة من واجب إلى هويّة
تنتقل الأم تدريجيًا من مرحلة “أداء الواجب” إلى “تبنّي الدور” بشكل متكامل. تصبح الأمومة جزءًا من ممارسة هويتها اليومية. تغيّرت أولوياتي، لم أعد أنزعج من السهر كما كنت، بل أصبحت أبحث عن لحظات القرب من طفلي حتى في أشد لحظات الإرهاق.
في كل مرّة كنت أبكي، لم أكن أضعف كما ظننت، بل كنت أتعلم. كنت أذكّر نفسي أنّ الدموع ليست علامة فشل، بل مرحلة من مراحل التقدّم الداخلي، وأنني لا أنهار، بل أتحمّل بصمت ما لا يُقال. لم تكن الأمومة طريقًا ممهّدة، بل رحلة مليئة بخوض الاختبارات اليومية، والتقلّبات العاطفية، والتحديات التي تكشف لي في كل مرة أنني أقوى مما أعتقد.
كيف تتصالحين مع هذه المشاعر؟
ابدئي بالاعتراف بتلك اللحظات لكي لا تُشكل لك عبئًا داخليًا. لا تخجلي من قول إنكِ بكيتِ، ولا تخفي دموعكِ، ولا تضغطي على نفسكِ بحجّة “الصورة المثالية للأم”. احتضني ضعفكِ كما تحتضنين طفلكِ. فالضعف الحقيقي هو إنكار المشاعر ومحاولة دفنها.

اختاري أن تطلبي المساعدة عند الحاجة، وخذي قسطًا من الراحة، وثقي أن هذه المرحلة تمر، وأنكِ أقوى مما تعتقدين.
عن أول مرة بكيت بسبب طفلي، تعلّمت أن الأمومة ليست لحظات وردية فقط، بل هي حال شعورية شديدة التعقيد، وممتلئة بالتناقضات وخوض الاختبارات. لكنها أيضًا أجمل رحلة يمكن أن تخوضها امرأة، لأنها تُحوّلكِ من الداخل، وتكشف عن قوتكِ الخفيّة. ومن الجدير بالذكر أنّنا سبق وكشفنا لكِ متى تكون مشاعر الذنب جزءًا من تجربة الأمومة؟
وبرأيي الشخصي كمحرّرة، أرى أنه لا تعني دموع الأمومة الشعور بالانكسار، بل تعني بداية حقيقية لعاطفة لا يشبهها شيء. كل دمعة تسقط تحمل شيئًا من الحب، والإخلاص، والشجاعة التي لا يراها أحد. فليست الأمومة اختبارًا للكمال، بل مساحة تتّسع فيها المشاعر، وتتعمّق فيها القدرة على التحمّل، ويزهر فيها شعور الحبّ الصافي، الذي لا يشترط شيئًا في المقابل.