يوجد أمهات بلا دعم يعشنَ الواقع الأصعب في تفاصيله اليومية. ينهضن باكرًا، ويتابعن كل صغيرة وكبيرة، ويتحمّلن الأعباء وحدهنّ، ويُربّين الأجيال من دون سند حقيقي. يواجهن التعب النفسي والتحديات الاجتماعية في صمت، وكأن المطلوب منهن أن يكنَّ كالآلات، لا يشعرن بالتعب.
ثم، يتجاهل المجتمع تمامًا خوض هذه المعاناة. يُصفَّق للأم القوية، لكنّه لا يمدّ لها يد العون. في هذا المقال، نسلّط الضوء على الأسباب التي تجعل الأم وحدها في كل شيء، ونتناول الآثار النفسية العميقة، ثم نختتم برؤية واقعية حول أهمية مشاركة الأم في أعبائها اليومية، لا بقول الكلام فقط بل بالفعل أيضًا.
تبدأ الأم وحدها منذ اللحظة الأولى
تدخل الأم عالم الأمومة وهي محاطة بستقبال المباركات، لكنها تبقى وحيدة حين تبدأ الليالي الطويلة. تسهر، وتُرضّع، وتنظّف، وتهدّئ، من دون أن يلاحظ أحد ما تمرّ به من تعب جسدي وذهني.

ثم، تستمر الأيام ويتحول الروتين إلى شعور عبء. لا يشاركها أحد في التفاصيل. لا يسألها أحد: هل نمتِ؟ أو تحتاجين شيئًا؟ تبدأ تشعر بالعزلة داخل بيتها، رغم أنّها وسط عائلتها.
يتحوّل غياب الشريك إلى قاعدة
يظنّ كثير من الأزواج أن دورهم ينحصر في القيام بالعمل وتوفير المال، فيغيبون عن ممارسة التربية، وعن بناء الروابط العاطفية مع أبنائهم. يغفلون أن الحضور اليومي، والاهتمام بالتفاصيل الصغيرة، هو ما يصنع العلاقة الحقيقية. لا يعوّض وجود المال نظرة، ولا يحلّ مكان لحظة صادقة بين أب وطفله.
ثم، تبدأ الأم تتولّى كل المسؤوليات: تحضير الوجبات، ومتابعة المدرسة، وحفظ مواعيد التطعيمات، واختيار الملابس، وحتى الاهتمام بصحة الطفل النفسية. تفقد توازنها تدريجيًّا، لكنها لا تشتكي. تواصل المسيرة، فلا خيار آخر أمامها.
يربط المجتمع قيمة الأم بالعطاء المستمر
يُقدّم المجتمع صورة مثالية ومزيّفة للأم، وكأنها كائن خارق لا يحق له أن يشعر بالتعب أو أن يشتكي. يتوقّع منها الجميع أن تضحّي بصمت، وأن تعطي بلا حدود، من دون أن تنتظر أي مقابل. يمدح صبرها في العلن، لكنه يتجاهل احتياجاتها في العمق، ويُحمّلها عبء العطاء من دون أن يعترف بإنسانيتها.

ثم، تبدأ الأم تشعر بالذنب إن طلبت فترة راحة، أو وقتًا لنفسها. تُخفي تعبها، وتبتسم رغم شعورها بالانهيار الداخلي. وهذا ما يجعلها تتآكل بصمت، تحت ضغط لا يتوقّف.
تؤثر الوحدة على صحتها النفسية
كشفت دراسة أُجريت في جامعة كامبريدج عام 2019 أن الأمهات اللواتي يفتقرن للدعم الاجتماعي يعانين من معدلات أعلى من شعور القلق والاكتئاب بنسبة تصل إلى 70% مقارنة بالأمهات اللواتي يتلقين دعمًا منتظمًا.
ثم، تؤكد هذه الأرقام أن تقديم الدعم العاطفي والاجتماعي ليس رفاهية، بل ضرورة لحماية توازن الأم النفسي. حين تعاني الأم وحدها، ينعكس ذلك سلبًا على صحّتها، وعلاقتها مع أطفالها، وحتى قدرتها على أداء مهامها اليومية.
تفقد الأم هويتها شيئًا فشيئًا
تمنح الأم كل وقتها للآخرين. تضع حاجاتهم فوق حاجاتها، وراحتهم قبل راحتها. تنشغل بتفاصيلهم، وتُهمِل نفسها أحيانًا من دون أن تلاحظ. تَعتبر تقديم العطاء واجبًا، وتتجاهل أن لها الحق بالتوقّف، وكسب الاهتمام، وبأن تكون مرئية بدورها.

ثم، تستيقظ بعد سنوات لتكتشف أنها فقدت هواياتها، وأصدقاءها، وربما طموحاتها. تذوب تدريجيًا في صورة “الأم” فقط. تُهمّش كيانها الشخصي، فلا يعود أحد يسألها عن أحلامها أو مزاجها أو حتى رأيها.
تتعامل الأمهات مع المهام كأنها واجب فردي
أثبتت دراسة منشورة في Journal of Marriage and Family عام 2021 أن 68٪ من الأمهات العاملات يقمن بإدارة أكثر من 80٪ من مسؤوليات المنزل والأطفال حتى في ظل وجود شريك دائم في البيت.
ثم، يتبيّن من هذا الواقع أن دور الأم يتحوّل إلى “إدارة شاملة”، تُنفّذ فيه كل شيء بدون أن تُسأل، أو يُستشار أحد إلى جانبها. تعيش هذه الحال بوصفها طبيعية، بينما هي استنزاف مستمر وغير عادل.
تحتاج الأم إلى الدعم
لا تنتظر الأم استلام الهدايا أو المبالغات. تحتاج فقط إلى شريك يُشارك، وإلى سماع كلمة “أنا معك”، أو تمضية عطلة تستعيد فيها أنفاسها.
ثم، تبدأ روحها تشعر بالهدوء، وتعود لطبيعتها. تصبح أكثر عطاءً، لأنها شعرت بالاحتواء لا بالاستغلال، فلا يحتاج دعم الأم إلى القيام بمجهود كبير. بل يحتاج إلى وعي، ومشاركة عادلة، واحترام وقتها، وصحتها، وحدودها.
تعاني الأم من غياب شبكات الدعم العائلي
كانت العائلات الممتدة سابقًا تشكّل شبكة شعور أمان للأمهات. كانت الجدة، أو الأخت، أو القريبة، تُقدّم المساندة اليومية والرعاية المشتركة. تعيش اليوم، الأمهات شعور العزلة داخل منازلهنّ الحديثة.
مع تغيّر نمط الحياة، غاب هذا الامتداد الداعم . لم تعد العائلة موجودة حول الأم. أصبح الجار غريبًا، والأخت بعيدة، والصديقة مشغولة. تعيش الأم أدوارًا مركبة من دون أي سند حقيقي. تُضاعف هذه العزلة الاجتماعية الشعور بالضغط النفسي والجسدي، وتجعل خوض حتى أبسط التحديات اليومية عبئًا متراكبًا.
لسنَ أمهات بلا دعم حالة نادرة، بل تُعتبر ظاهرة واسعة. يتحمّلن الأعباء اليومية من دون سند، ويتعايشن مع الشعور بالضغط المستمر وحدهن.
ثم، نُدرك أننا كمجتمعات فشلنا في احتضان الأم، والاعتراف بتعبها، وفي تحويل العائلة إلى مساحة عادلة وآمنة لها. ومن الجدير بالذكر أنّنا سبق وكشفنا لكِ كيف تشكل الأمومة شخصية الطفل؟
وبرأيي الشخصي كمحرّرة، أرى أن أكبر هدية يمكن أن تُقدَّم لأي أم هي الدعم الحقيقي. لا قول كلمات منمّقة، بل القيام بأفعال ملموسة. دعوها ترتاح، واستمعوا لها، وشاركوها حمل المسؤولية. ليست الأم مصدرًا لا ينضب، بل إنسانة تحتاج إلى من يحتويها كما تحتوي الجميع.